د. أمل الجمل تكتب: السينما التشيكية بين الماضي والمستقبل ونهاية العالم في كارلوفي فاري الـــ٥٧

ربما لا أتذكر عنوان أول فيلم شاهدته من جمهورية التشيك، أو «تشيكوسلوفاكيا» سابقاً. المؤكد أنني دخلت لعوالم وثقافة هذا المكان من زاوية مغايرة، وربما مناقضة، من خلال الروايات والقصص القصيرة منذ التحاقي بالجامعة، وذلك قبل أن أشتبك في عالم الفن السابع. كان كافكا أحد كتابي المفضلين، رغم كل هذه السوداوية في كتاباته. ساعدتني تحليلات كبار نقاد الأدب في مصر لأعماله، أن أستوعب في مرحلة مبكرة من عمري هذه الحالة التي يكتب عنها وأدخل إلي العالم النفسي المُظلم لشخصياته، ثم لاحقاً قرأت ميلان كونديرا التي تحول إلى ظاهرة في العالم العربي.
فتاة في سن المراهقة من مصر ما الذي يجعلها تُعجب بأفكار كاتب ينتمي لعصر آخر ويعيش في بلد على بعد آلاف الأميال؟ إنها موضوعات رواياته ذات الطابع العالمي، بجوهرها الإنساني، وبالخيال اللامحدود الذي تُروى من خلاله القصة.
كلمة «التشيك» صارت كأنها علامة للجودة في عالم مشاهداتي السينمائية. لم يكن يمر عام واحد إلا وأُشاهد عدة أفلام تشيكية في مهرجانات السينما المصرية، ثم اتسع نطاق الاختيار عندما بدأت رحلاتي للسفر للمهرجانات الدولية مثل فينيسيا وبرلين.
اختلف الأمر جذرياً منذ بدأت أحضر مهرجان كارلوفي فاري، لأن العدد الكبير للأفلام التشيكية المعروضة، هنا، يمنحني فرصة أكبر للمشاهدة والاختيار والقرب أكثر من عوالم هؤلاء المبدعين، أشاهد كل الأنواع الفيلمية سواء روائي أو وثائقي، واقعي أو فانتازي، الاجتماعي أو السياسي الذي يناقش التاريخ بكافة جوانبه، أشاهد الكوميدي، الموسيقي، الخيال العلمي فالسينما التشيكية لدها إرث غني متنوع. في كل دورة هناك حفنة كبيرة من الأفلام التشيكية موزعة في مختلف الأقسام، في المسابقات جميعها، في العروض الخاصة، في «قادما من الماضي»، في التكريمات، في العروض المرممة.
إن منظمي هذا المهرجان العريق يصنعون منه حدثاً دولياً بامتياز، لكنهم في ذات الوقت يضعون في مركز تفكيرهم فرض مساحة مستقرة للسينما المحلية في البرمجة، وأعتقد أنهم بهذا قد ساهموا بشكل من الأشكال في تشجيع الإنتاج، وبث طاقة من الحماس في قلوب وأرواح شباب المخرجين في التشيك، الطموحين، وهكذا يجب أن يكون واجب أي مهرجان في العالم.
عندما نمتلك حرية اختيار العودة من الموت؟
في الدورة السابعة والخمسين من هذا المهرجان التشيكي العريق، والذي يُعد الأهم في وسط وشرق أوروبا، والممتد بين ٣٠ يونيو وحتى ٨ يوليو الجاري، تم برمجة فيلمين على جانب كبير من الأهمية ضمن المسابقة الرسمية «أبدا لم نكن معاصرين»، و»إنسان حساس»، إضافة إلي برمجة أفلام آخرى ضمن قسم «العروض الخاصة» ومنها فيلم يتناول رؤية مستقبلية عن قدرة الإنسان على العودة من الموت، أو بالأحرى أن يكون لديه حرية الاختيار، والعودة من الموت إلي الحياة وفق شروط محددة.
عنوان الفيلم «نقطة للتعافي»- في اللغة التشيكية Bod obnovy – أو «نقطة استعادة» – وفق عنوان الإنجليزي Restore Point للمخرج روبرت هلوز Robert Hloz مواليد ١٩٨٩ وفي رصيده ثلاثة أفلام قصيرة.
ينتمي هذا الشريط السينمائى لأفلام الجريمة والحركة، إنه عملي فني مليء بالاشتغالات البصرية غير التقليدية رغم أنه التجربة الروائية الأولي للمخرج. مدته ١١١ دقيقة، من الإنتاج المشترك لعام ٢٠٢٣ بين جمهورية التشيك، جمهورية سلوفاكيا، بولندا، صربيا.
يحكي الفيلم قصة آسرة عن دور التكنولوجيا في حياتنا الذي قد يصل لمدى يفوق الخيال ويفوق الثقة التكنولوجية الحالية، تقع الأحداث عام ٢٠٤١ ، عندما تمكنت البشرية من تحقيق الخلود، أو ربما هى النقطة التي نستطيع فيها خداع الموت. فكل مَنْ يموت بشكل غير طبيعي يكون له الحق أن يُعاد إلى الحياة. كل ما عليه هو إنشاء نسخة احتياطية من شخصيته كل ٤٨ ساعة على الأقل «نقطة استعادة». لكن من زاوية آخرى ستظهر حركة معارضة لهذا الفكر، من ثم سوف تتصاعد الأحداث ويحدث الصدام، وتتطور الأمور ويتفشى الإرهاب، ويتضح أن الأمر ليس قضية بسيطة تتعلق بخيار حول العودة إلي الحياة لأن عواقبه ستصل إلى أعلى مستويات السياسة.

أبدا لم نكن عصريين
يميز الأفلام الثلاثة أنها على طرفي نقيض من بعضها البعض، وما يجمع بينها هو التميز الفكري والفني، والقدرة على طرح أسلوب مبتكر للسرد يتسق والموضوع، فإذا كان أحدها يقفز إلي المستقبل القريب، فيبدو الثاني وكأنه يحكي عن ما بعد نهاية العالم. في حين يعود الثالث للتاريخ القريب ليقدم لنا صورة للثنائية الجنسية وضحاياها وكيف كان يتعامل معها المجتمع قبل ثمانين عاماً فقط.

يستكشف فيلم «شخص حساس» A Sensitive Person لمخرجه توماس كلين – Tomáš Klein في أول تجاربه الطويلة – طبيعة العلاقات الأسرية والأخلاق وتصرفات الرجال مع النساء أهالي الأماكن مع الغرباء والمحتاجين. الفيلم مقتبس عن رواية للتشيكي جاشيم توبول Jáchym Topol، شارك المخرج في كتابة السيناريو.

هنا بالفيلم – الذي شارك التلفزيون التشيكي في إنتاجه – نرى أب يبدو وكأنه غريب الأطوار. إنه ممثل متجول متزوج ولديه ولدان، يقرر أن يعود من الخارج بصحبة عائلته ليستقروا في جمهورية التشيك، وطوال رحلة العودة، سيكون الأب وعائلته شاهداً على عالم يتدهور نظامه وأخلاقه بشكل تدريجي، وذلك عبر تأمله أو احتكاكه بمجموعة من الشخصيات الغريبة: مثل الناسك، أو مافيا المخلفات، والنساء البغايا، وسائقي الدراجات.

ينتمي هذا الشريط لأفلام الطريق، ينهض على مسحة من التشاؤم وينجح المخرج في توظيف الكوميديا القاتمة والغرائبية. على المستوى البصري يتمتع الفيلم بجماليات تكاد تكون شحيحة لكنها ساحرة سينمائية، فالموت وبقايا الأشياء والتعفن يسيطر على المشهد، مع ذلك فإن المخرج يُكسب اللقطات مساحة لونية صاخبة مفعمة بالحيوية عبر الملابس النسائية لكل من المهرج وابنه، إضافة إلى ألوان الماكياج فيكشف التناقض البين بين عوالمهم والعالم الذي يعودون إليه.

بينما يعود فيلم «أبداً لم نكن عصريين» We Have Never Been Modern إلي التاريخ القريب وتحديداً عام ١٩٣٧ ليتناول إشكالية الثنائىة الجنسية. الفيلم من توقيع المخرج ماتوج كلوباتشيك، ويُتوقع أن ينال أحد أبرز جوائز المهرجان، ربما تنال بطلته إليسكا كرينكوفا جائزة أفضل تمثيل نسائى- ولا ينافسها في ذلك إلا بطلة الفيلم البلغاري الألماني «دروس بلاجا» – فقد أدت دورها بمهارة وتلقائية وصدقية عالية معتمدة على نظرات العيون في إيصال رسائلها ومشاعرها إذ كانت تعتمد على الصمت الأصعب في أحيان كثيرة. مثلما تتميز إليسكا كرينكوفا بقدرتها على توظيف إيماءتها الجسدية بأقصى طاقة ممكنة مع أقل قدر من الانفعال، إذ رغم بشاعة ما مرت به وما تراه لكنها ظلت تتحكم في نبرة صوتها وانفعالاتها ولم تنفجر بصوتها عاليا إلا مرات معدودة جداً. وسنعود لتحليل الفيلم لاحقاً لأهميته وأهمية الشخصية التي قدمتها بطلته المولودة في ٣١ يناير ١٩٩٠ في براغ، والتي اشتهرت بأفلام مثل: «أنواع معينة من الصمت» ٢٠١٩ و«الشتاء يمر سريعاً» ٢٠١٨، و«مارتنسكا لود» ٢٠٢١.

أضف تعليق

Your email address will not be published.

آخر المقالات من عرب تريبيون