د. أمل الجمل تكتب: د. سلطان القاسمي يُوثق لحضارة عمان


قراءة التاريخ عنده تكتنفها متعة كبيرة، لأنه لا يكتفي بتقديم المعلومة، عبر الصور والوثائق النادرة التي بذل جهدا متفرداً في الحصول عليها واقتنائها، إنما غالباً ينسج المعلومات مع بعضها في حكاية درامية بلغة بسيطة، تجذب القاريء وتجعله يشعر بمدى احتياجه للوعي بالمعلومة وإدراك ما وراء تفاصيلها، ومن ثم يفهم المغزى من سرد التاريخ.

أتحدث عن سمو الشيخ د. سلطان القاسمي – حاكم الشارقة – الذي صدرت أحدث مؤلفاته «سلطان التواريخ» أي حجة التواريخ، عن منشورات القاسمي، قبل أشهر قليلة، حيث يقدم«تاريخ عمان» في أربعة أجزاء: «تاريخ عمان من الاستيطان البشري إلي نهاية الدولة الإباضية» – (تاريخ الملوك النبهانيين في عمان ١١٥٤م – ١٦٢٢م ) – (تاريخ اليعاربة في عمان ١٦٢٣ – ١٧٤٧م ) – ثم (تاريخ أئمة البوسعيد في عمان ١٧٤٩ – ١٨٥٦).

من أبرز ما يُميز هذه الموسوعة أن المؤلف يُصحح أموراً تاريخية، مستنداً لآيات الذكر الحكيم، فيوضح الأخطاء التي وقع فيها مؤرخو الغرب، حيث يسرد الدكتور سلطان القاسمي التغيرات المثيرة التي عاشها سكان عمان نحو الألف وخمسمائة قبل الميلاد، حيث دخل لأرض عمان أعداداً كبيرة من البشر. هنا، يستعين د. القاسمي بآيات عديدة من القرآن الكريم لشرح وتحليل وتفسير تلك العلاقة بين قوم عاد وهود، وكيف انتشر قوم الأول المؤمنين وغير المؤمنين ودمروا كل شيء بتسلطهم بعد وفاة النبي هود حيث انتشروا في عمان، من ثم يُصحح موضحاً كيف أن مؤرخو الغرب قد خلطوا بين الإرميين – قوم عاد- وبين آرام بن سام بن نوح، خصوصاً بعد هجوم اليونانين عليهم وتفرقهم في البلاد.

يبدأ الجزء الأول من العصر الحجري القديم وأقدم المخلفات الأثرية بدلالتها في عمان، ومنها موقد النار، والمقابر الركامية المميزة جدا بسلطنة عمان والتي يزيد عددها عن مائة ألف، وفترات الجفاف وما أعقبها من رخاء، وممارسة الدفن الثانوي، وتحول مجتمعات الصيد والالتقاط إلى نظام معيشة أكثر تعقيداً، ثم وجود القوارب بعد حين، وتطورها مع أدوات الصيد عندهم، مع التأكيد على تصديرها للنحاس بكميات وفيرة، والاتصال التجاري، كذلك وجود مستوطنات زراعية كبيرة مؤرخة للألفية الثالثة. مثلما يُشير لوجود وحدة حضارية قوية بين عمان وعدد من المواقع في الأمارات في ذلك الزمان، وذلك رغم أي مناوشات تسبب فيها أو خلقها المستعمر والمحتل في بعض الأوقات اللاحقة.

تُؤكد تفاصيل السرد بالأجزاء الأربع للموسوعة على الجهد الكبير الذي بُذل لانجاز صفحاتها، التي تعتمد أساسا على مقتنيات نادرة في مكتبة سمو الشيخ د. سلطان، مثلما تستعين في أجزاء منها بأرشيفات ومتاحف أجنبية مثل السويد وانجلترا، أو مزادات في الولايات المتحدة الأمريكية. هذا الجهد يتجلى بوضوح أيضاً في أكثر من موضع منها، أنه لا يتهاون في التنقيب عن معنى مفردة أو اسماً في الموسوعات حتى لو تطلب ذلك التنقيب في خمسين جزءاً باللغة الفارسية كما فعل مع مفردة «ماكان» التي تعني «اسم الملك».
كذلك، منها الملاحق بما تضمنته من مسكوكات أجنبية أو إسلامية في عمان – بعضها يخص الاسكندر الأكبر – أو مخطوطات أرشيفية وتقارير مُوثقة، أو هوامش تتضمن المراجع، وفهرس الأعلام. فسمو الشيخ أثناء بحثه الثري المُعمق عن المعلومات يتنقل بين نقوش المعابد في بلدان مختلفة فارسية وآشورية، يتأمل النصوص والرسائل، يبحث في الكتب والمعاجم ليُحقق في تاريخ عمان، وأثناء ذلك يطرح علامات الاستفهام حول بعض الأصداء في الأسطورة العمانية ومنها طبيعة التملك والحكم الفارسي في عمان، من ثَمَ يُصحح عدداً من الأغلاط ومنها الإدعاء بأن آهل عمان وسكانها كانوا من الفرس، فنجده يستخدم نصاً منقوشاً على جدران المعابد كحُجة في شرح العلاقات بين البشر الذين سكنوا في عمان، ويلجأ لاكتشافات أثرية تثبت سيطرة عُمان على الساحل الغربي وتحررها من الاحتلال، بينما في أحيان آخرى وأثناء محاولات المحتل للسيطرة على عمان يكون رد فعل بعض الأئمة أو الشيوخ مستترا موسوماً بالدهاء، حيث يزعمون أنهم يوافقون على الهدنة وإدعاء الاستسلام، بينما الحقيقة أنهم يُماطلون حتى يصل المدد العسكري لبدء المقاومة المعلنة، سواء انتصروا أم لا. مثلما، يحكي أيضاً عن أسباب توقف المستعمر أحياناً عن تهديد عمان، بينما في أحيان ثالثة «تقع الفتنة في السلطنة وتكبر المحنة ويختلف الناس في دينهم، ويفترق رأيهم، ويعظم القيل والقال، ويشتد بينهم القتال».

تصب هذه الموسوعة في النهر ذاته حيث اهتمام سمو الشيخ بثيمة التراث والتاريخ وفهمه فهما حقيقيا، فالوثيقة التاريخية تُعتبر مرجعا مهما لقضايا كل عصر من العصور، إذ يقول: «نحن خليجيون، مما يعني أهمية الاحتفاظ بتراثنا وعاداتنا في الخليج، ثم أننا عرب فيجب أن نحافظ على لغتنا وتراثنا وأصالتنا العربية.»
من هذا المنطلق – الذي أوضحه سموه أعلاه – نتفهم جيداً لماذا تضمنت مؤلفاته تحقيق الوثائق التاريخية تصحيح أخطاء شائعة رَوَّجها رجال من الغرب، والمستعمر أثناء سنوات احتلاله للمنطقة، ومن بينها سلطنة عمان.

أضف تعليق

Your email address will not be published.

آخر المقالات من عرب تريبيون