حسان الطيار يكتب: عاصم بكري .. الفارس الذي ترجل من على صهوة جواده

عقود من العطاء والإبداع تنتهي بـ(شكراً ونشوفك على خير)

أعواماً بعد أعوام، وأنا أجلس وراء شاشة التلفاز أتابع ذلك الرجل المصري الوسيم وجهاً، ابن النيل الباسم الرزين، سليل أرض الكنانة المتزن في طرحه، البارع في حواره وإدارة حلقاته، المجتهد في انتقاء مواضيعه.
الإعلامي المتميز الكبير الأستاذ عاصم بكري، الذي كان أكثر ما شدني إليه -مضافاً لما سبق- تمسكه بالحديث والحوار مع ضيوفه باللغة العربية الفصحى الرصينة، التي افتقد لها الجل الأعظم -إن لم يكن الكل- من الإعلاميين في حديثهم أمام الكاميرات، فاستبدلوها بلغاتهم العامية -وإن كانت جميلة فالعربية الفصحى ستظل أجمل- وكان ذلك طريقاً للقضاء على لغتنا التي بتنا نحتفل بيوم واحد بها كل عام، على الرغم من أنها لغة القرآن الكريم الذي نقرأه في اليوم خمس مرات على الأقل، ولغة الآباء والأجداد، ولغة القامات الذين لا نزال -وسنظل- . نفخر ونتفاخر بهم. لغتنا التي نزل بها أعظم الكتب السماوية، وكتبت بها كلمات الله تعالى. فكان بعدنا عن لغتنا أن نصل لقصة حدثني عنها الأستاذ عاصم بكري، فقال: (ذات يوم كنت أتحدث بالعربية الفصحى مع أحد الأخوة الضيوف، ففوجئت بأن قال لي (ما تكلمنا عربي يا اخويه)، وكأني كنت أتحدث مع باللاوندي).
بعد كل ما قدم هذا الهرم الإعلامي الكبير، كان ألمي حينما علمت أنه حينما قدم آخر حلقة له على القناة الفضائية المصرية، كان كل ما ناله، كلمة (شكراً) دون أي هدية تذكارية أو تكريم أو حتى حفل مشروبات باردة في هذا الصيف الحار. فما كان من المخرج الكبير الأٍتاذ إيهاب حسني، الرجل الذي التقيت به، وعرفته عن قريب ورأيت فيه نبل التربية وكرم الأخلاق، إلا أن أقام لزميله وصديقه وأخيه الأستاذ عاصم بكري، حفلاً في منزله لتكريمه ولو بالقليل.
بالمقابل، حينما ننظر حولنا نجد أن هناك تكريم وتكريمات، وحفل وحفلات، وفعالية وفعاليات تقام لشكر أو تكريم أو تفخيم من كان لهم تاريخ في مجالات أخرى لا تصل لتاريخ رجل كالأستاذ عاصم بكري، فهناك تجد تكريم الراقصة فلانة، أو تفخيم اللاعب فلان، أو الاحتفاء بالعارية علانة، فماذا قدم هؤلاء للأمة وللأجيال وللثقافة والتربية مقارنة بما قدمه رجال الإعلام المرموقين -ومعهم رجال الجامعات، ورجال الطب، ورجال الدين، ورجال الاقتصاد، ورجال التربية، ورجال التعليم، ورجال القوات المسلحة والشرطة، وأشباههم من العلماء والمختصين رجالاً ونساءً- كالأستاذ عاصم بكري! وهل أصبحنا في عصر تحطيم الرموز وتكريم العراة!!
الأستاذ عاصم بكري، هذا القامة الذي تشرفت ذات يوم بزيارته في منزله، والذي أبهرني -بخلاف لغته العربية الفصحى، ودماثة أخلاقه ورقي وسمو تربية أسرته- بمكتبته وكتبه الجمة التي علمت منه أنها مقروءة إن لم يكن قد قرأ بعضها عدة مرات، وذلك للإبقاء والمحافظة هلة ذاته، شخصية مثقفة عالية الثقافة والمعرفة. وحينها دار حديث معه عن أسماء يصعب لي سردها حتى لا أطيل، جميعها قامات وأباطرة لا يجهلها إلا جاهل، تعامل معهم والتحم بهم وتعلم منهم في مسيرته الإعلامية. وجدت نفسي أمام شخصية يصعب حصر ميزاتها وخصائصها.
ذات يوم كان لي لقاء في الفضائية المصرية في إحدى حلقاته، وكان أول مرة التقي بها بهذا القامة الكبير، وكانت المفاجأة، حينما وجدته يستقبلني في صالة الاستقبال، ويجلس إلى جواري يتحدث معي وكأنه يعرفني منذ عدة أعوام، ويتناول في بعض حديثه ما سيتم طرحه في اللقاء عند التصوير وأنا لا أدري عن كل ذلك، وكل ذلك ما كان إلا لتخفيف حدة رهبة الوقوف أمام الكاميرات التي لا تترك أحداً منها، وحينما دخلت للتصوير المباشر، وجدت نفسي بأريحية تامة، وعلمت آنذاك أن هذا القامة الإعلامي، لم يكن مذيعاً أو مقدماً لبرنامج أو إعلامي فحسب، بل كان يدير كل صغيرة وكبيرة في برنامجه حتى على المستوى الإنساني والنفسي، جنباً إلى جنب مع الأستاذ منى معدة البرنامج، والمخرج الكبير الأستاذ إيهاب حسني.
سألته ذات يوم: (حينما التقيت بك في الفضائية المصرية، كنت أشعر بالرهبة منذ دخولي مبنى ماسبيرو، فكيف أمام إعلامي كبير مثل جنابك؟ وكيف أمام كامير وتصوير مباشر؟ كيف استطعت أن تقضي على هذه الرهبة في داخلك؟)، فكان جوابه الذي لم أتوقعه قط إذ قال: (أخي حسان، هل تصدق إن قلت لك، أنه ما من يوم وصلت فيه مبنى ماسبيرو إلا وكنت فيه كأول يوم لي في عملي، ذات الهيبة والرهبة. لا أدري هل هي هيبة ورهبة هذا المبنى الذي يعرفه العالم، والذي خرج منه ما أبهر العالم بأسره؟ أم هي الرهبة والهيبة للجمهور العربي الكبير الذي أشرف بالحديث معه؟ وبقي كل ذلك معي حتى آخر حلقة قدمتها للفضائية المصرية والتي ستظل عزيزة على قلبي، وفي وجداني).
اليوم ينهي الإعلامي الكبير، صاحب الصوت الفخيم، والخلق العظيم، الأستاذ عاصم بكري عمله في القناة الفضائية المصرية، فإن كان قد غادر هذا المبنى، فإنه لن يغيب قط عن سمع وبصر ووجدان المشاهد العربي الذي سيظل يحتفظ له بسجل حافل من البرامج والحلقات والتي لا يمكن نسيانها، وستظل دروساً يتعلم منها الجيل والأجيال القادمة في مجال الإعلام.
شكراً لك أستاذ عاصم، وستظل في القلب دائماً.

حسان الطيار

كاتب وشاعر سعودي.

أضف تعليق

Your email address will not be published.

آخر المقالات من عرب تريبيون