/

قلق العراق الباحث عن الخلود

قلق العراق الباحث عن الخلود
قلق العراق الباحث عن الخلود

على قلق كأن الريح تحتي

تمثلت أهمية الانتخابات البرلمانية الأخيرة بالعراق في إنها استجابة الدولة العراقية للاحتجاجات الشعبية في أكتوبر 2019، احتجاجات على البطالة وضعف الخدمات العامة والفساد المستشري والطبقة السياسية التي رأى المتظاهرون أنها موالية لإيران أو الولايات المتحدة أكثر من موالاتها للشعب العراقي.

انتخابات قال عنها الرئيس العراقي بَرهم صالح: (نأمل أن تكون منطلقاً لمشروع إصلاحي يلبي تطلعات العراقيين في حكم رشيد، ومُنطلقاً نحو ما نريده لبلدنا في أن يكون حراً مستقلاً ذا سيادة، وحكومة تعمل على تسخير موارد البلد لمواطنيه)
انتهى الكلام الشجاع الصريح للرئيس العراقي.

الطموح يبدو كبيراً..
لكن التحديات كذلك كبيرة وخطيرة:
إذ تأتي الانتخابات في ظل اضطرابات كبرى تعيشها البلاد، من بينها وجود التنظيمات الإرهابية والكتائب المسلحة خارج نظام الدولة..

كما قال مدير المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية، الدكتور غازي السكوتي: هناك ملفات أخرى تعصف بالبلاد، مثل الفقر المائي الرهيب، الذي يهدد بقتل الزراعة في أعرق بلد زراعي في العالم..
وكذلك الديون الخارجية والداخلية والتي تبلغ أكثر من 134 مليار دولار، والعجز المالي يزيد على 200 مليار دولار، علاوة على مستويات البطالة التي قد تتجاوز 10 ملايين مواطن،ووجود 6 ملايين طفل يتيم.

الإجابة على السؤال المتشائم: لماذا لن تغير نتائج الانتخابات الحال وكأنها الجني الخارج من قمقمه في إحدى حكايات ألف ليلة البغدادية، مستعدا لتلبية 3 طلبات، أو لإنزال 3 نقم بمن فتح القمقم؟
لماذا لا يتوقع العراقيون (على الأقل بحسب ما يتبدى في مواقع التواصل الاجتماعي) لا يتوقعون أن يمنحهم نوابهم الجدد ما يستحقونه من حياة آمنة وحرة وكريمة؟
إحابة هذا السؤال ليست سهلة المنال،
وقد تدفع العارفين بأحوال العراق في نصف القرن الأخير إلى المبادرة بإبداء اليأس التام، الشبيه بالموت الزؤام!
لكنْ اليأس والتشاؤم أفكار بسيطة، حلول العاجزين عن التفكير والتدبير..
ولا تصلح للانطباق على أمة مثل الأمة العراقية لها آلاف السنين تمر بالمصاعب والمحن..
ومازالت -رغم ذلك- واقفة على قدميها تتحدى الزمن!

العراق يحتاج التأمل بعينين مفتوحتين على حكمة التاريخ
ووجدان متفتح للتراث الحضاري والإبداعي الهائل المتراكم في بلاد ما بين النهرين
وقلب ملؤه المحبة والنية الحسنة


حب المصريين للعراق، واحترامهم لصلابة شعبه، وقدرته الإعجازية على مواجهة المحن المتتالية التي كُتبت عليه..أمور مفروغ منها..
لكنْ المصريين أيضاً، هم أكثر شعوب العالم، قدرة على فهم روح العراق، وإدراك الطبيعة العميقة للسؤال المُقلق الذي يُحير هذه الأرض المسماة أرض السواد، لفرط خصوبتها..
ويُحير أهلها منذ أكثر من خمسة آلاف عام..
وحتى الآن:
سؤال الخلود.
….
لكل من حضارتي الشرق العظميين المصرية والعراقية
أسطورة أساسية كاشفة
لو أننا حللناها
فقد يمكننا أن نفهم ولو جزئيا تركيبة الچينات الحضارية الموروثة عند الأمتين.
..
في الألف الثالث قبل الميلاد
أي منذ حوالي خمسة آلاف عام
كان المصريون ينقشون على الجدران الداخلية لأهراماتهم النصوص الأقدم لحكاية إيزيس وأوزوريس
وفي نفس الوقت تقريباً
وفي مدينة أور السومرية
التي اسمها حالياً الوركاء
كان المُدوّن السومري ينقش على ألواح من الصلصال المحروق النسخة الأقدم من حكاية الملك جِلجاميش وصديقه إنكيدو..

في الحكاية الفرعونية المصرية:
ست يخدع أخاه أوزوريس ويحبسه في تابوت خشبي ويرميه في البحر، لكن الزوجة الوفية إيزيس، تبحر وراءه حتى تجده في لبنان، وتعود به ليُدفن في مصر، ويتحول إلى إله خالد، هو الحَكَم بين البشر يوم الحساب.
الرسالة: فلنستمتع جميعاً بالاستقرار النفسي، فالطمأنينة الأبدية والخلود، يتحققان بالتأكيد في العالم الآخر.

أمّا في الحكاية السومرية العراقية:
فإن الملك الشاب القوي جلجاميش يفزعه موت صديقه الصدوق إنكيدو، الموت الذي لا يرده شيء؛ لا القوة ولا الشباب ولا الوسامة ولا المال..
لا شيء يرد الموت إذن!
هذا يعني أن جلجامش نفسَه سيموت يوماً ما!
وهذا ما لا يمكن قبوله..
جلجامش يريد أن يحيا للأبد، يريد الخلود..
وينطلق جلجامش في رحلة مليئة بالمغامرات، سعياً للخلود..ولكنه يعود في النهاية خائباً، مُحملاً بنصيحة واحدة لا ترضيه إلا قليلاً: استمتع يا جلجامش بالحياة، واحصل منها على أقصى ما يمكنها تقديمه لك من مُتع..
إذ لا يمكن للبشر الوصول للخلود..
الرسالة هي: الصراع قدرُك مادمت حياً، والقلق رفيقك المقيم، الذي يحرمك الطمأنينة والاستقرار.
….

ولهذا، ربما، فإن مصر عبر التاريخ أقرب للاستقرار والثبات، بينما العراق أقرب للقلق والصراع.

إنه القَدَرُ الذي تكشفه الحكايات المؤسسة، والصانعة للچينات الحضارية.

يقول ابن العراق وسيد الشعراء العرب
العبقري القلق أبو الطيب المتنبي

كَذا الدُنيا عَلى مَن كانَ قَبلي
*
صُروفٌ لَم يُدِمنَ عَلَيهِ حالا

أَشَدُّ الغَمِّ عِندي في سُرورٍ
*
تَيَقَّنَ عَنهُ صاحِبُهُ انتِقالا

عَلى قَلَقٍ كَأَنَّ الريحَ تَحتي
*
أُوَجِّهُها جَنوبًا أَو شَمالا
….

هذا القلق العراقي الوجودي الموروث،
مزعج دون شك لمن يعيشونه
لكنه في المقابل، يصنع من الأمة المصابة به
خلية إبداع متوهجة
عراق المتنبي والسياب والجواهري والرصافي والبياتي ونازك الملائكة وأحمد مطر..
عراق يشبه المتنبي تماماً؛
على قلق يفجر العذاب والإبداعا!

أضف تعليق

Your email address will not be published.

آخر المقالات من عرب تريبيون