لست ممن أُجيزَ له بالإفتاء، ولا ممن يصدِّرُ نفسه لذلك، وإنما أبحث كما يبحث غيري، وأبين بعضاً مما قد خفي عن البعض، وأترك الأمر كله لله تعالى ثم للإنسان نفسه ليبحث بنفسه عوضاً عن الإتكال على قال فلان بن فلان، وأمر ابن فلان، وهو ما لم يُؤمرُ به، وإنما أُمرنا أن نقرأ ونتعلم ونبحث من جهة، وأن ننظر إلى أهل العلم الثقات ونقرأ ما اتفقوا عليه أو اختلفوا فيه بعيداً عن التعصب والتمسك بالرأي الواحد وتقديس من لا قدسية لهم، بل يظلون ممن يؤخذ منهم ويرد عليهم مهما بلغت درجاتهم وارتفع مقامهم، فكل يؤخذ منه ويرد عليه إلا سيدنا رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم.
من تلك، ما سمعنا كثيراً عن تحريم زيارة النساء للمقابر والقبور، وصلت لقول بعضهم -بعد رفضه أقوال العلماء الآخرين- إلى جعل تلك النساء في دائرة اللعن المطلق من جهة أو حتى طردهن بفظاظة وغلظة من أمام المقابر، بل وصل الأمر إلى ما سمعنا من فتوى شخص بعينه بأن زيارة النساء للنبيصلى الله عليه وآله وسلم غير جائزة وأن ذلك أمر مستحدث، وهذا عين الباطل ودعوة صريحة لما أجتمعت عليه الأمة من جهة، ولب للكذب والبهتان على الأمة بأن ذلك أمر مستحدث وهو الثابت حدوثه وفعله -أي زيارة النساء للنبيصلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه- منذ إنتقال سيدنا رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى،فدفعني كل ذلك للبحث عما إذا كان هذا الأمر -أي زيارة النساء للمقابر- متفق عليه عند علماء الأمة كافة أو أنه أمر اجتهد فيه السابقون واللاحقون واختلفوا فيه بين التحريم والنهي والجواز والاستحباب وغيره.
ولست أكتب مقالي هذا لبيان الآراء المختلفة في شأن زيارة النساء للمقابر والقبور، وإنما لأبين الرأي الآخر المسكوت عنه -كما بينه غيري- والذي جاهد الكثير ممن يتصدرون لبيان رأي بعينه ونشره بكل قوة دون بيان الرأي المخالفة لهم، مستفيدين من دعم مواقعهم الإلكترونية ونشر أتباعهم لأقوالهم فيما يخص التحريم والنهي فقط،تأييداً وتحيزاً لرأي واحد ذاع صيته بل والمحاولات المستميتة لدفن الرأي الآخر أو إضعافه أو حتى إبطاله من خلال الطعن فيه بغية الوصول إلى ترك بقية تلك الآراء والاجتهادات بعيدة عن أيد الناس، وهي القائلة بأن زيارة النساء للمقابر جائزة برأي جمهور من العلماء، وليس فيه إجماع بالتحريم كما حاول البعض إظهار ذلك.
فأما أدلة الجواز فكثيرة، نذكر منها على سبيل الاستدلال لا الحصر:
أولاً: تعليم سيدنا رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها ماذا تقول عند زيارة المقابر، وليس من العقل أن يُخبر سيدنا رسول الله سيدتنا عائشة شيئاً هي منهية عنه. فقد روى مسلم رحمه الله في صحيحه ثبوت إذن سيدنا رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم لأم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها وتعليمها الدعاء إذا زارت القبور “قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال قولي: “السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون”.
ثانياً: مرور سيدنا رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم على امرأة تبكي عند قبر فقال: (اتقي الله واصبري ..الحديث)، فهو صلى الله عليه وآله وسلم لم ينكر على على تلك المرأة جلوسها عند القبر، وتقريره صلى الله عليه وآله وسلم كما في الإجماع حجة. فقد روى البخاري ومسلم وغيرهم رحمهم الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “مرَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بامرأة تبكي عند قبر, فقال: “اتقي الله واصبري،” فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه, فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: “إنما الصبر عند الصدمة الأولى”.قال ابن حجر في (فتح الباري ٣/١٤٨): “وموضع الدلالة منه أنهصلى الله عليه وآله وسلم لم ينكر على المرأة قعودها عند القبر، وتقريره حجة، وإنما أنكر عليها البكاء الشديد أو رفع الصوت به مما قد نهي عن مثله. قال القرطبي: الظاهر أنه كان في بكائها قدر زائد من نوح أو غيره، ولهذا أمرها بالتقوى. قلت: يؤيده أن في مرسل يحيى بن أبي كثير المذكور (فسمع منها ما يكره فوقف عليها)” انتهى كلام ابن حجر.
ثالثاً: قول سيدنا رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم “زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة”، وتذكّر الآخرة يحتاجه الرجل وتحتاجه المرأة على حد سواء. فقد روى مسلم والترمذي وغيرهم رحمهم الله عن سيدنا رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم قوله: “كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها” وزاد الترمذي بإسناد صحيح: “فإنها تذكر الآخرة” ثم قال الترمذي: “وقد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم في زيارة القبور، فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء”.
رابعاً: جواز زيارة النساء للقبور بلا كراهة, وهو مذهب الجمهور؛ وإليه ذهب الحنفية، وقول عند المالكية، وهو الأصح عند الشافعية مع أمن الفتنة، ورواية في مذهب الحنابلة، واختيار ابن حزم رحمه الله وغيره (رد المحتار ٢/٢٤٢, مواهب الجليل ٢/٢٣٧, المجموع ٥/٣١٠-٣١١، المبدع ٢/٢٨٤, المحلى ٣/٣٨٨).
خامساً: ما جاء في (المستدرك وسنن البيهقي)، من ثبوت زيارة القبور من الصحابيات, فقد ثبت عن السيدة عائشة رضي الله عنها, كما روى ابن أبي مليكة أنه رآها زارت قبر أخيها عبدالرحمن فقيل لها: أليس قد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك؟ قالت: “نعم، كان نهى ثم أمر بزيارتها”.
سادساً: ما ثبت من زيارة سيدتنا فاطمة الزهراء رضي الله عنها لعمها الحمزة في أحد، حيث كانت تذهب كل جمعة إلى قبر سيدنا حمزة بن عبدالمطلب، أسد الله وأسد رسوله رضي الله عنه لتزوره وتزور شهداء أحد، ولو كان هناك نهي أو منع أو تحريم لما فعلت ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقد روى الإمام البيهقي والحاكم في المستدرك في كتاب الجنائز عن علي بن الحسين رضي الله عنهما، عن أبيه رضي الله عنه: (أن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة فتبكي وتصلي عنده)، قال الحاكم: هذا الحديث رواته عن آخرهم ثقات.
سابعاً: نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم النساء عن إتباع الجنائز مع عدم تشديده صلى الله عليه وآله وسلم في المنع كما يُفعل في سائر المنهيات، وليس في ذلك دليل على تحريم زيارة النساء للمقابر كما يتمسك به البعض، فإن اتباع الجنائز -وهو الذي لم يشدد في منعه- يكون في وقت المصيبة، وهو أشد وأعظم من مجرد الزيارة؛ وأما عند الزيارة فيكون قد حصل السلوان، وأما وقت المصيبة فهو الوقت الذي تكون فيه شدة وقع المصيبة على النفوس. فقد روى البخاري ومسلم وغيرهم رحمهم الله عن أم عطية نسيبة بنت كعب الأنصارية رضي الله عنها قالت: قال رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم: “نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ، ولَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا”.
ثامناً: إجازة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لزيارة النساء للقبور، وتضعيفه لرواية “لعن الله زائرات القبور” كونها لا تصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم, فقد رواها أبو صالح والذي ضعفه أكثر المحدثين كالمزي وغيره. قال الإمام أحمد رحمه الله لما سئل عن المرأة تزور القبر: “أرجو إن شاء الله أن لا يكون به بأس, عائشة زارت قبر أخيها, قال: ولكن حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعن زائرات القبور, ثم قال: هذا أبو صالح ماذا؟ كأنه يضعفه, ثم قال: أرجو إن شاء الله عائشة زارت قبر أخيها, قيل لأبي عبدالله: فالرجال؟ قال: أما الرجال فلا بأس به” (التمهيد 3/234).أما رواية “لعن الله زوارات القبور” فإنها تدل على النهي عن دوام زيارتها وتكرار ذلك؛ لما قد يصاحبه من المنكرات والتجاوزات، ولا يلزم ترتب الوعيد على تكرار الفعل ترتبه على أصل الفعل (حاشية العطار على شرح المحلي 4/280).
تاسعاً: ثبوت زيارة سيدتنا عائشة رضي الله عنها لرسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم وأبيها ولسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وثبوت زيارة النساء على مر القرون لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن قيل فيه استثناء، فماذا عن زيارتهن لسيدنا أبوبكر وسيدنا عمر رضي الله عنهما.
عاشراً: ثبوت نسخالنهي عن زيارة النساء للقبور بالحديث الصحيح عند مسلم والترمذي وغيرهما: “كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها”, ويدل على ذلك أمور:
1. أن السيدة عائشة رضي الله عنها صرحت -كما سلف ذكره- بالمتأخر من الحديثين، وأن الإذن كان بعد النهي “فقيل لها: أليس قد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك؟ قالت: نعم، كان نهى ثم أمر بزيارتها”، وهذا إخبار بالترتيب بين الأدلة، وليس مجرد اجتهاد منها.
2. أن خطاب الذكور يدخل فيه النساء على مذهب جماهير الأصوليين، إلا أن يأتي نص أو إجماع على إخراج النساء من ذلك، ويستدل على ذلك بأمور، منها:
• قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “النساء شقائق الرجال” رواه أبو داود والترمذي.
• إجماع أهل اللغة على تغليب الذكور على الإناث في الجمع، فإن اجتمع الذكور مع الإناث فإن الرجال يغلبون.
• العرف الشرعي, قال الله تعالى عن السيدة مريم عليها السلام: (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِين)، فـ(القانتين) جمع مذكر سالم, وقوله تعالى: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً) وفيهم حواء.
3. أن العلة في مشروعية الزيارة “فإنها تذكر الآخرة” موجودة في النساء والرجال على السواء، والحكم دائر مع علته وجوباً وعدماً.
4. أن هذا هو الموافق لإقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمرأة في زيارة قبر ولدها، وتعليمه للسيدة عائشة رضي الله عنها ما تقوله عند زيارة القبور.
مما سبق من عرض مبسط، وأخذاً بالقول (لا إنكار في مسائل الخلاف) لاسيما المسائل الخلافية التي لم يثبت فيها نص عند هذا ونص آخر عند آخر، فيكون كل واحد من العلماء المختلفين قد عمل أو أفتى بما أداه إليه اجتهاده، وهذه المسائل لا إنكار فيها، ولا ينبغي لواحد من المختلفين أن يحمل الآخر على قوله؛ لأن كل واحد منهم لم يخالف نصًا، بل خالف اجتهاد مجتهد، ليتضح بجلاء أن أمر زيارة النساء للقبور فيه اختلاف بين العلماء بين التحريم والنهي والجواز والإكراه وكل له أدلته، وإلى هذا ذهَب بعض الشافعية والحنابلة في حالة الإختلاف بقولهم: (أن العاميَّ إذا اختلف عليه فتوى علماء عصره، فهو مخيَّر، وله الأخذُ بأيها شاء).
لا تتعندوا لرأي بعينه معتقدين أن اتساع نشره من جهة، وتضليل أو تبديع الرأي المخالف لكم هو دليل على ثباتكم على الحق، وأن رأيكم الحق المطلق، فالحق الأصيل هو في بيان الآراء كافة للناس وليس الانتصار لرأي بعينه، ولا يظن أحد أنه الأوحد الذي يسير على طريق الحق، فتراه يكفر هذا، ويبدع ذاك، ليصل به الأمر إلى تزكية النفس، حتى تصل فيه نفسه البشرية أن يؤمن أنه وفريقه هم أهل الجنة دون الغير.
اللهم آنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وأرزقنا اجتنابه.
اللهم إن كنت قد أصبت فمنك وحدك لا شريك له ولك الحمد، وإن كنت أخطأت فمن نفسي أستغفرك وأتوب إليك.
بقلم: حسان علي الطيار – المدينة المنورة
آخر المقالات من عرب تريبيون
أثار النجم المصري محمد رمضان تفاعلاً واسعاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي، خلال الساعات الماضية، بسبب سؤال
كشف الفنان المصري تامر حسني، عن ملامح أول دويتو غنائي له مع مواطنه رامي صبري. ونشر
ذكرت تقارير إعلامية أن النادي الأهلي يواصل العمل على تعديل أوضاعه خلال فترة الانتقالات الشتوية. قال
أعلن نادي الزمالك التقدم بشكوى رسمية إلى الاتحاد المصري لكرة القدم ورابطة الأندية ضد الحكام بسبب
استشهد وأصيب عشرات الفلسطينيين بينهم أطفال ونساء، اليوم، في عدوان الاحتلال المتواصل على قطاع غزة، والذي