“يوم المرأة وعيد الأم”

يومان يأتيان في شهر مارس من كل عام، تقام في كل منهما احتفالية بشكل مختلف عن الأخرى، هما يوم المرأة العالمي في اليوم الثامن ، وعيد الام في اليوم الحادي والعشرين.

والحق أن كلا اليومين يذكرني بفضل المرأة ودورها في حياتنا بصفة عامة، وحياتي أنا شخصيا بصفة خاصة. فبعيدا عن ذلك الكلام الإنشائي الذي يساق عادة في مثل تلك المناسبات، فإن واقع حياتنا اليومي يبرز بشكل لا لبس فيه الدور المحوري الذي تقوم به المرأة : أما وأختاً ثم زوجة وابنة. وكلما ازدادت الحياة قسوة ومرارة وصعوبة ،ازداد دور المرأة حجما وأهمية في مساندة الرجل ودعمه والتخفيف عنه فيما يلاقيه من معاناة. وإذا كان ذلك واضحا بصفة عامة في حياة كل منا ، فإنه على المستوى الشخصي بالنسبة لي ربما يزيد عن ذلك بكثير . وربما حانت الفرصة الآن للكلمات التي تُلح علي أن أكتبها منذ زمن بعيد: ففي حياتي لعبت المرأة أدوارا لا تنسى أسهمت في تكويني واتجاهاتي وكثير من صفات نفسي. أكثر من سيدة أود أن أتوقف عندها وأحني جبهتي وأقبل يديها اعترافا بما قدمته لي وتقديرا لبعض جميلها العظيم.

أولى هذه السيدات هي أمي ؛أول من استقبلت في هذه الحياة، وأول من علمني معنى العطاء ، وأكثر من عانى في تربيتي وتشكيلي وتكويني ومنحي القيم والمثل التي مازلت أحيا بها وأعلمها لأبنائي وطلابي في معاهد العلم المختلفة. وربما لن أزيد في الحديث عنها لروتينية حديث أي ابن بارٍ عن أمه التي يراها بالتأكيد خير نساء الدنيا.

أما المرأة الثانية التي أعطر قلمي بذكرها وذكر فضلها ، فهي “الأستاذة هدى” رحمها الله رحمة واسعة-معلمتي في مراحل دراستي الأولى ولمدة أربع سنوات، يا الله!!! ما هذا الحب المتدفق من قلب هذه السيدة؟!!

ما ذلك العطاء غير المجذوذ وغير المشروط لطفل لا يملك من أمر نفسه شيئا؟!!

ما كل هذه الأمومة الطاغية لابن لم تنجبه؟!

مهما حاولت كلماتي أن تعبر عن جميل ذكرياتي مع هذه السيدة فلن تستطيع. كان حبها وتشجيعها وتكريمها الدائم لي دافعا لأن أطلب من أمي حينها أن تسمي مولودتها الجديدة – أختي الصغيرة- باسمها. وقد كان. رغم مرور سنوات كثيرة على تلك الذكريات ، ورغم أن “أبلة هدى” كما كنّا نناديها – توفيت وأنا في الصف الخامس الابتدائي مصابة بمرض السرطان، رغم ذلك كله فإن ما قدمته هذه السيدة لي ولزملائي آنذاك سيظل محفورا في وجداننا الى الابد وسيظل جميلها يطوق أعناقنا ما حيينا.

بعد ذلك بسنوات قليلة كانت حياتي على موعد مع استقبال شمس أخرى من شموسها المضيئة : هذه المرة مع أستاذة اللغة الانجليزية القديرة “مس فردوس عبد العزيز” ، نموذج آخر ممن يثبت أن الرزق ليس أموالا فقط وإنما قد يأتيك في صورة إنسان يغير مجرى حياتك ويغرس فيك صفات نبيلة تكمل بها ما تبقى من عمرك. من جديد تأتي ميس فردوس لتعطي نموذجا لنهر متدفق من العطاء الذي لا يخشى فاقة ولا فقرا ولا نضوبا. علم ومهارة تعليمية فذة وتأثير طاغٍ لا يقاوَم يجبرك على حب ما تقوله والتهام دروسه من أجلها. وفوق هذا وذاك ؛ عطاء أُمٍ لا تنتظر مقابلا مهما صغر أو كبر. لن أنسى لها إصرارها وأنا في الشهادة الإعدادية ، وبعد أن لاحظت تراجعا في مستواي نتيجة عام ضائع في الصف الثاني مع مدرس آخر ، كان ضعيف الشخصية والعلم ، وحين عادت للتدريس لي في الصف التالي ووجدتْ ما وجدتْ، أصرت على أن أذهب إلى منزلها مع زميل لي مرتين أسبوعيا لإعطائي دروس تقوية – وبدون أي مقابل. ورغم محاولاتي الحثيثة طوال العام أن أدفع لها ثمن الحصص كباقي زملائي ، فإنها كانت ترفض تماما بل وتوبخني في كل مرة وتلومني لمجرد عرض الفكرة وتقول إنها هي التي طلبت أن آتي إليها ولست أنا ، فكيف يمكن أن تحصل على مقابل؟؟

بالله عليكم : هل رأيتم جمالا مثل هذا الجمال؟

ولها أقول بعد هذه السنوات : لك مني يا سيدتي وأستاذتي كل الحب والتقدير ؛ ومهما قدمت لك فلن أوفيك حقك أبدا ، وسامحيني على تقصيري في دوام السؤال عنك والاطمئنان عليك. ولكني أؤكد لك أنني أبدا لا أنسى عطاءك وفضلك وحبك مهما حدث.
وهناك سيدة رابعة في حياتي أدين لها بكثير من الفضل وهي الإذاعية القديرة والأم الحنون عائشة أبو السعد – عليها رحمات الله وبركاته- التي كانت أيضا واحدة من أبرز علامات حياتي وأكثرها نصوعا ، فقد كانت رحمة الله عليها نموذجا فريدا في التدريب الاذاعي الذي تمتزج فيه الخبرة والمهارة بالذكاء والحس الاجتماعي المرهف والتي مازالت دروسها في فترة العام التدريبي في إذاعة صوت العرب ، مازالت هذه الدروس تشكل خطوطا أمشي عليها وألقنها للطلاب والمتدربين والإعلاميين الجدد.

لم تكن الحاجة عائشة – كما كانت تحب أن تُلَقَب- مجرد مديرة ومدربة ، بل كانت بمثابة أم لأجيال من المذيعين والمحررين والمراسلين ، نموذج قل أن يجود الزمان بمثله ، وأسأل الله أن أكون بارا بها ، ناقلا بأمانة لكثير مما تعلمته منها.

هذه هي المرأة ، وتلك هي الأم التي يجب أن نحتفي بها ، ليس ليوم واحد فقط من كل عام ، ولكن في كل لحظة من لحظات حياتنا. أدام الله نعمة وجود المرأة- رمز الحب والدفء والعطاء – في كل وقت وحين.

أضف تعليق

Your email address will not be published.

آخر المقالات من عرب تريبيون