الروض النضير في فناء الحمير

(الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة.)
يحيى الطاهر عبد الله

تلفت أساطير وحكايات القبائل الإفريقية انتباهي منذ زمن بعيد، بثرائها وتنوعها ودلالاتها العميقة البليغة، وأزعم أنني اطلعت على معظمها، وإن في ترجمات للإنجليزية، عن ترجماتها الدقيقة إلى اللغة الألمانية، التي قام بها بإتقان ودأب، المُستفرق (على وزن مُستشرق) النمساوي أوتو فون بوهر.
أي أنني قرأتها أبعد مرتين عن لغاتها الأصلية، لكنّ (بعض الربيع ببعض العطر يُختصرُ) كما قال عمر أبو ريشة.
..
لفتت حكاية بعينها من الحكايات الشعية لقبائل (الهوسا تروف) القاطنة في وسط القارة، انتباهي منذ اطلعت عليها.
وماتنفك تلح علي هذه الأيام، لسبب أو لآخر.
وهأنذا أنقلها لكم، عن ترجمة الكتاب المهم لفون بوهر (قبل نسيان الحكايات: نصوص المرويات الشعبية للقبائل الأفريقية جنوب الصحراء.)

يحكي الأجداد أن بحر الرمال الكبير الذي يحيط بقرى الهوسا تروف اليوم، لم يكن في الماضي السحيق غير سهل كبير خصيب أخضر، اسمه سهل الحمير، تنمو فيه أشجار عملاقة، نعرف اليوم بعضها ونجهل أكثرها، وتسكنه آلاف الأنواع من الحيوانات، نعرف بعضها اليوم ونجهل أكثرها، لأننا لم نرها قط، لا نحن ولا حتى الأجداد أنفسهم، فقد احترق السهل ومات كل ساكنيه منذ زمن بعيد، بعد معركة الحمير، لكن دعونا نحكي الحكاية من البداية.
كانت الحمير الوحشية في تلك الأزمان القديمة، هي أكثر قطعان الغابة عددا، وكانت تنقسم إلى قبيلتين رئيسيتين: الحمير الوحشية السوداء المخططة بالأبيض، والحمير الوحشية البيضاء المخططة بالأسود، وكان الصراع بين القبيلتين على أشده، وكثيرا ما أدى إلا تقاتل دامٍ، أُزهقت فيه أرواح الكثير من الحمير، من الطرفين.
لكن حماراً عجوزاً حكيماً يُدعى (ناهق) عَزّ عليه أن تتردى الأوضاع الداخلية لأمة الحمير كل هذا التردي، فجمع إليه قادة القبيلتين الحميريتين، وصارحهم بأن الأزمة التي تمر بها الأمة الحميرية هي أزمة مصير، وأن الحمير يتعرضون لمؤامرة كبرى، تهدف لتمزيقهم وتفتيت وحدتهم، لمصلحة قوى خارجية، لا يهمها إلا أن تفترسهم افتراساً بما لديها من مخالب وأنياب يفتقر إليها الحمير، الذين لا يتقاتلون إلا بالعض والرفس والنطح، بالأسنان والحوافر والجماجم،وهي أسلحة لا تقتل أسدا ولا ذئبا، وإن كانت تقتل الحمير أنفسهم، أو تضعفهم فيصيرون فريسة سهلة للأمم الحيوانية الأخرى من أصحاب المخالب والأنياب.
وبعد أن تبادل الزعماء الرأي، بشأن السبل الكفيلة بوضع حد للاقتتال الحميري الداخلي، والطرق المؤدية لتوحد أمة الحمير في مواجهة الأخطار الفادحة المحدقة بها، والآليات اللازمة لرأب الصدع الحميري/الحميري..إلخ
اتفقوا على ما يلي:
– تتوقف كل الأعمال العدائية والتحريضية بين الحمير.
– تقوم الحمير السوداء المخططة بالأبيض بحماية الحدود الجنوبية لسهل الحمير حيث تعيش الذئاب والضباع.
– تقوم الحمير البيضاء المخططة بالأسود بحماية الحدود الشمالية لسهل الحمير حيث تعيش الأسود والفهود.

وانصرف القادة مع أتباعهم لتنفيذ المهام المقدسة، وخلال أيام نعمت أمة الحمير بالسلام التام، واستطاعت إيقاف حالات الافتراس، وأصابت الأمم الحيوانية الضارية من حولها بالمجاعة، ودفعتها للبحث عن فرائس خارج حدود السهل الخصيب الذي صار ملكا خالصا للحمير.

لكن تغيير الطبع مستحيل كما تقول حكمة الأجداد الأفارقة، فبعد زمن قصير، فكرت قبيلة الحمير السوداء المخططة بالأبيض في أنها ستصبح أقوى من غريمتها القديمة المخططة بالأسود إذا ما تحالفت مع الذئاب والضباع وشنت هجوما ساحقا على القطاع الشمالي من الغابة وقتلت كل الحمير الحمقاء هناك، ليصير السهل ملكا خالصا للحمير السوداء المخططة بالأبيض.
وحين وصلت أنباء المفاوضات الجارية بين الحمير الجنوبية والذئاب إلى مسامع الحمير الشمالية شرعت هي الأخرى في التفاوض مع الأسود والفهود للتحالف معها في وجه حمير الجنوب الشريرين، وتطهير الغابة من خبثهم ومكرهم وتآمرهم.
وفي يوم مشهود، التقى الجمعان، حمير الجنوب المدعومون بالذئاب والضباع، وحمير الشمال المدعومون بالأسود والفهود، ودارت رحى معركة طاحنة، نفقت فيها كل الحمير، ولم يبق على قيد الحياة غير الذئاب والضباع والأسود والفهود، التي أولمت وليمة كبرى، على لحوم الحمير!
أما الحمار العجوز الحكيم (ناهق) الذي نأى بنفسه عن الاقتتال الأحمق، فقد مزق الحزنُ قلبه على حال الحمير، وأدرك أن السهل بعد اليوم لن يكون إلا مرتعا للوحوش المفترسة، فأشعل فيه النار، حتى صارت أعشابه اليانعة، وأشجاره المورقة رمادا.

ولهذا –تقول الحكاية- لم يبق من سهل الحمير، ولم يبق من أمة الحمير، غير الذكرى الصالحة للتأسي والاعتبار.

(من قديمي المُجَدّد!)

أضف تعليق

Your email address will not be published.

آخر المقالات من عرب تريبيون