التهديد الوظيفي

كانت معظم مخاوف البشر في الحضارات القديمة وفقاً لكتاب قصة الحضارة (The story of civilization) للكاتب الأمريكي ويل ديورانت تتمثل في قلة نزول المطر وذلك لأن حياتهم تعتمد على دورة الحياة الطبيعية من خلال الزراعة والصيد والرعي، ومع التطور والتغيير الذي حول حياة معظم البشر إلى المدنية في عصرنا الحالي تغيرت الاحتياجات الأساسية للبشر وأصبحت الوظيفة هي معيشة الأغلبية منهم.

‏يشهد عالمنا اليوم أزمات اقتصادية خانقة بدأت بجائحة كورونا وحرب روسيا وأوكرانيا والتي تُهدد بقطع سلاسل الإمداد عن السلع والمواد الأساسية وموجة من غلاء الأسعار بشكل جنوني، وفقدان الكثير لوظائفهم بسبب الخسائر المالية لكبرى المنظمات التجارية زادت من الضغوطات الإقتصادية على صحة الإنسان النفسية

‏الثورة التقنية المُتسارعة للذكاء الاصطناعي تسببت أيضاً في فقدان الكثيرين لوظائفهم كما ألغت العديد من المسميات المهنية واستبدالها بروبوت أو جهاز يؤدي الغرض دون الحاجة لدفع راتب لموظف يقوم بالمهمة، فعلى سبيل المثال يستطيع محاضر أكاديمي أن يُلقي محاضرة عن بعد يحضرها الآلاف من الناس عن بُعد وبالتالي لم نعد بحاجة إلى محاضر لكل ١٠٠ مُتعلم.
‏الذكاء الاصطناعي سيوفر الوقت والجهد والمال وفي القريب العاجل سوف يسيطر على معظم المهن التي كان البشر يقتات منها، وأصبح التهديد الوظيفي يؤرق الكثيرين الذين أصبح حلمهم في هذه الحياة مجرد وظيفة آمنة تُلبي أدنى مقومات الحياة الكربمة.

‏برغم كل الأزمات إلى أن دائرة الحياة لا تتوقف ولكل زمان مُتغيرات علينا أن نتقبلها، والمهم في موضوعي هذا هو القطاع الخاص الذي أصبح يتعامل مع الموظف وكأنه روبوت لا مشاعر ولا قيمة له، للأسف الشديد الكثير من الشركات والمؤسسات منها لا تُعطي للموظف حقوقه التي يستحقها بل وتستنزفه إلى أبعد حد، وتهضم حقوقه من خلال ثغرات عقود الموارد البشرية التي فرضتها على موظفيها والتحايل على أنظمة الدول والتي أصبحت محاكمها العمالية مُكتضة بالقضايا التي رُفعت عليهم من قبل الموظفين والعمال بسبب تأخير الأجور أو إنكار الحقوق المالية، فلا يسعني هنا إلا أن أقول لهم اتقوا الله في البشر أولم تسمعوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه.

‏يُعدّ الأمان الوظيفي واحداً من أكثر المتغيرات تأثيراً في تحفيز الموظفين، فاعتقادهم بأنهم لن يفقدوا وظائفهم أو أنهم يستطيعون الإستمرار في نفس المنظومة طالما أنهم يريدون ذلك يُعتبر محفزاً مهماً، ويؤثر إيجاباً في تغيير سلوكيات العمل السلبية وفكرة ترك الوظيفة، كما يدل الأمان الوظيفي على استقرار الوظيفة، لأنه عادة ما يرتبط بنتائج العمل الإيجابية مثل الالتزام التنظيمي، والعكس صحيح حيث إنّ الموظفين الذين يفتقرون للأمان الوظيفي يكون أداؤهم ضعيفاً أو متذبذباً ومستوى رضاهم الوظيفي متدني.

‏يؤدي الأمان الوظيفي دوراً هاماً في كل من الحياة الاجتماعية والحياة المهنية لأنه يساعد الموظفين على عدم القلق بشأن مستقبلهم الوظيفي، ويسهم في الحفاظ على الاستقرار في العمل، وزيادة الإنتاجية وحماية القيم الاجتماعية في بيئة العمل وبالتالي تكون هنالك نهضة وطنية قوية.

‏عندما تستخدم الشركات الأمان الوظيفي للتهديد، بدلاً من استخدام أسلوب التحفيز، فإن ذلك يؤدي إلى نتائج عكسية؛ لأن الموظفين يفقدون شعورهم بالالتزام”. ويمكن لهذا الأسلوب أن يدمر الثقة في نفوس الموظفين، ويعتبر التهديد بفقدان الوظيفة أمراً غير مُرحب به على الإطلاق.

‏ مصلحة العمل تتمثل بتكريم المتميزين ومحاسبة المقصرين والتحفيز من خلال العلاوة السنوية التي لا تعترف بها كثير من الشركات والمؤسسات وخاصة المؤسسات التعليمية مثل المدارس الخاصة، وإشراك الموظف في أسهم المنظومة كما فعلت شركة جوجل وغيرها من الشركات الناجحة، أما الشركات والمنظومات التي فشلت أو ستفشل عما قريب فهي تلك التي يكون فيها الموظف مُحتقن ولا تهمه مصلحة العمل وبالتأكيد سوف تنخفض إنتاجيته بشكل كبير نتيجة عدم رضاه عن الوضع الذي هو فيه والذي قد يُشعره بنوع من العبودية ولا ننسى أن الوظيفة لقبها الكثيرين بعبودية العصر الحديث.

‏في الختام علينا أن نعلم حقاً ويقيناً بأن الأرزاق بيد الله الواحد الأحد وهو الذي قسم الأرزاق بين البشر بتوازن عجيب سبحانه وترك للناس سعيهم في الوصول إليه، فلا تخاف ولا تقلق وتسبب بالأسباب وإذا أُغلق في وجهك باب فتأكد أن الله سيفتح لك باباً آخر تُرزق منه، فقط أحسن نيتك وتعلم فالدنيا دروس وخبرات وعلى قدر ما تتألم على قدر ما تتعلم.