نهاية «التوافق المؤقت»: كيف خدم استبعاد «روبرت مالي» من منصبه مصالح المتشددين في طهران وواشنطن؟

جاء استبعاد روبرت مالي من منصب المبعوث الأمريكي الخاص لإيران، في أواخر يونيو الماضي، بعد موجة من التّفاؤل بقرب توصُّل الولايات المتحدة وإيران إلى توافُقٍ مؤقَّت لحلّ الأزمة النووية العالقة. واستمر هذا التفاؤل نحو ثلاثة أشهرٍ، قبل أن تُطيح به عدّة أنباء سلبيّة مُترابطة، من ضمنها إقصاء مالي الذي يُعتبَرُ مُدافعاً أصيلاً عن فكرة إحياء الاتفاق النووي.



ويبدو أن استبعاد مالي من منصبه لم يكن حدثاً داخليّاً في أوساط الإدارة الأمريكية الديمقراطية فقط، بل كان له علاقةٌ أيضاً بشبكةٍ من التطوُّرات على الصعيد الإيراني، حيثُ تشهد القوى السياسية انقساماً حادّاً حول كيفية مقاربة العلاقة المأزومة مع واشنطن.



تراجُع فرص “التوافق المؤقت” بين واشنطن وطهران

في خلال شهري أبريل ومايو 2023 أشارت مصادر رسمية إيرانية إلى حصول تقدُّمٍ في المفاوضات بين واشنطن وطهران؛ إذْ أكَّد نائب رئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني، حسين شهرياري، أنّ الجانب الأمريكي بعث رسائل تؤكد رغبته باستئناف مسار المفاوضات، وأنّه من المفترض أن يستضيف أحد الأطراف الإقليمية الجولة الجديدة من المفاوضات، مُرجِّحاً أنْ يكون هذا الطرف الإقليمي هو سلطنة عمان. وفي السياق ذاته، اعتبرت مراكز تحليل إيرانية مُقرّبة من وزارة الخارجية، زيارة السلطان العماني هيثم بن طارق إلى إيران في أواخر مايو الماضي، تتويجاً للجهود الرامية إلى إعادة الأطراف إلى مسار المفاوضات. وجرى الحديث عن إمكانية إبرام “توافق مؤقّت” يتضمن عدة نقاط، منها: إيقافُ مسار التصعيد النووي الإيراني عند ما هو عليه، وتحريرُ المعتقلين الأمريكيين في طهران، مقابل تحرير أرصدة إيرانية مجمّدة، وتساهُلٍ أمريكي في تطبيق نظام العقوبات على مبيعات النفط الإيرانية.



لكنّ الاستبعاد المفاجئ للمبعوث الأمريكي مالي، أطاح بموجة التفاؤل السائدة تلك. وذلك على الرغم من أنّ عدة أطراف في إيران والولايات المتحدة حاولت التقليل من أهمية استبعاد الرجل من منصبه، مؤكدةً أنّ السياسات الأمريكية لا تتغيّر بتغيُّر الأشخاص. لكنّ الرأي الأكثر شيوعاً في أوساط المراقبين هو أنّ إقصاء الرجل أو إقالته تعملُ على تقويض مسار التقارب الإيراني-الأمريكي، واستبعاد فرص الصفقة التي كانت إدارة بايدن تنوي عقدها مع إيران.



وممّا يدعم نظريّة تراجُع فرص “التوافق المؤقت” بعد استبعاد مالي، أنّ الخطوة جاءت في سياق دعم جناح الصقور في إدارة بايدن، متمثِّلاً بمستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، ومساعده بريت ماكغورك، في وجه جناح الحمائم، المتمثل بوزير الخارجية أنتوني بلينكن، والمبعوث السابق روبرت مالي. وبحسب وجهة نظر الحمائم، فإنّ تقديم بعض الامتيازات في إطار حسن النوايا سيُشجّع إيران على العودة إلى مسار التوافق، فيما يرفض جناح الصقور الذي يبدو أنه أصبح في موقع أفضل بعد تكليف ماكغورك، فكرة حسن النوايا، ويرى أنّ تشديد الضغوط على إيران هو الوسيلة الأمثل للتوصُّل إلى اتفاق نووي جديد مع الجانب الإيراني.



حدث داخلي، ومستفيدون خارجيون

لعلّ النتيجة الأبرز التي يُمكننا التوصُّل إليها حينما نضعُ استبعاد مالي ضمن سلسلة من الأحداث المترابطة، هي أن المستفيد الأساسي من استبعاد مالي لم يكن طرفاً أمريكيّاً على الإطلاق، بل كان المستفيد هو “الحرس الثوري الإيراني”، وذراعه السياسية المؤثرة في البرلمان الإيراني، والمتمثلة بجبهة الصمود (بايداري).



لقد كان مالي يدعم فكرة “التوافق المؤقت”. ومن ثمّ فإن استبعاده قد يسهم في إطاحة فرص هذا التوافق الذي روّجَ له الجانب الأمريكي، ولقيَ مباركةً من عدّة أطراف داخل إيران، فيما ووجه بالرفض من الوجوه المُقرَّبة من “الحرس الثوري” على اعتبار أنّه لا يُلبّي المصالح الإيرانية.



إلى جانب ذلك، حمل استبعاد مالي دلالات مؤثرة على صعيد الاصطفافات السياسية الداخلية بين تيارات المحافظين في طهران. فبعد إشادة مراكز قرار إيرانية محافظة (على رأسها الحكومة، وجبهة الصمود) باحتضان العاصمة العُمانيّة مسقط مُفاوضاتٍ أمريكية-إيرانية “غير مباشرة”، جعلتها (أي مسقط) مركزاً للجهود الدبلوماسية العَلنيّة لصُنع “التوافق المؤقت” بين واشنطن وطهران؛ لكنّ التطوُّرات اللاحقة أظهرت أنّ ملامح هذا “التوافق” تم التوصُّل إليها عبر “مفاوضات مباشرة” جرت في الولايات المتحدة، التي احتضنت سلسلةً من اللقاءات السرّية على مدار الأشهر الماضية، بين روبرت مالي، والمبعوث الإيراني لدى الأمم المتحدة سعيد إيرفاني.



كان إيرفاني مُقرّباً من أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني السابق، علي شمخاني. وكان الأخير قد بدأ مساراً طموحاً لحلحلة عُقد العلاقات الخارجية الإيرانية بعيداً عن أروقة الحكومة الإيرانية، لكنْ بدعم مباشر من القائد الأعلى الإيراني، علي خامنئي. وقد حقّقت جهود شمخاني نجاحاتٍ لافتة فيما يتعلّق بالعلاقات الإقليميّة، إذ جرى التوصل إلى اتفاق لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع المملكة العربية السعودية، واُستُؤنفَت العلاقات الدبلوماسية الإيرانية مع عدد من الدول العربية. وقد أثارت هذه النجاحات امتعاض الفئات المُتشدّدة في التيار المحافظ الإيراني، متمثّلة بجبهة الصمود (بايداري). كما أثارت امتعاض الحكومة الإيرانية التي رأت في أنشطة شمخاني حراكاً بديلاً عن المسار الدبلوماسي الرّسمي، وإفراغاً لصلاحيات الحكومة في السياسية الخارجية، خصوصاً أن أطرافاً عدّة في طهران، روّجت لفكرة استعداد شمخاني لخوض السباق الرئاسي المقبل، وسعيه إلى استخدام النجاحات التي حققها خلال مفاوضاته لترجيح حظوظه الانتخابية.



ويبدو أنّ استبعاد مالي خدم مصالح المتشدّدين في طهران، من خلال تقويض “مسار نيويورك” البديل الذي كان يُديره شمخاني، لصالح “مسار الخليج” الذي تُديره أطرافٌ تنتمي إلى حكومة إبراهيم رئيسي و”جبهة الصمود”، التي أظهرت التطورات الداخلية انغماسها مع الحكومة في تحالف متين، في وجه تياراتٍ أخرى من المحافظين محسوبةٍ على مؤسسة “بيت القائد”. وفي إطار تصدي الحكومة و”جبهة الصمود” لظاهرة صعود شمخاني، شنّ قادة “جبهة الصمود” هجوماً إعلاميّاً قويّاً على الرّجل، وساعدت الحكومة في هذا إنجاح الهجوم عبر المُسارَعة إلى طرح مشروع إقالة شمخاني واستبداله بوجه مقرب من متشدّدي التيار المحافظ، و”الحرس الثوري”. ومن خلال إقالة شمخاني في طهران، ثمّ إقصاء مالي في واشنطن، تحقَّق ما كانت تصبو إليه الأطراف الأكثر تشدُّداً في طهران، من إيقاف مسار المفاوضات المباشرة التي امتدّت لأكثر من ثلاثة أشهرٍ مع روبرت مالي بحسب مصادر دولية.



ملامح “مؤامرة” وراء استبعاد مالي

مثَّل إقصاء روبرت مالي ضربة قاضية وُجِّهَت إلى مشروع “التوافق المؤقت”، ليكون “الحرس الثوري” والأذرع السياسية المرتبطة به، هم أبرز المستفيدين. ويبدو أنّ إقالة شمخاني كانت الضربة الأولى التي وُجِّهت لهذا التوافق الهشّ.



لقد ألمحت مصادر مرتبطة بـ “الحرس الثوري” إلى أن أسباباً تتعلق بخروج شمخاني من دائرة صلاحياته، كانت وراء التعجيل في تنحيته من منصبه؛ ما يعني أنّ تياراتٍ مقربة من “الحرس”، قد تكون استغلت “المفاوضات المباشرة” بين رجل شمخاني (إيرفاني) والمبعوث الأمريكي مالي للضغط باتّجاه إقالة شمخاني بدعوى خروجه على إجماع النظام، وإجرائه حواراً مباشراً مع الأمريكيين. وكما كان “الحرس” وراء إقالة شمخاني، من المرجح تماماً أنْ يكون له دورٌ في استبعاد المبعوث الأمريكي روبرت مالي. وذلك ببساطة لأنّ تلك الإقالة جاءت بفعل بتسريبِ مضمون مفاوضاتٍ سرّية أجراها مالي مع المبعوث الإيراني لدى منظمة الأمم المتحدة سعيد إيرفاني.



وعلى الرغم من أن فكرة التعاون خلف الكواليس بين بعض الدوائر السياسية في إيران، وبعض أروقة السياسة في واشنطن، لتطبيق مخططات تخدم المصالح الفئوية للجانبين يبدو أمراً غريباً، لكنّه ليس مُستبعداً؛ إذ تُشير التجربة التاريخية إلى وجود أسبقيّات لمثل هذا التعاون، ومنها: التنسيق الذي تمّ بين رجال حكومة روحاني وفريق الحزب الديمقراطي الأمريكي لمقاومة ضغوط إدارة ترامب غداة انسحابها من الاتفاق النووي. لقد استهدفت تلك الجهود مساعدة الديمقراطيين في الفوز بالسباق الرئاسي. وفي بداية الثمانينات جرى التنسيق بشكل مشابهٍ أيضاً بين قادة الثورة الإيرانية وأطرافٍ في الحزب الجمهوري، تمّ بموجبه، التلكُّؤ في الإفراج عن الرهائن الأمريكيين لضمان نجاح الرئيس الجمهوري رونالد ريغان.



إنّ تلك التجارب التاريخيّة تخبرنا ببساطة أنّ التعاون المحتمل بين قوى سياسية أمريكية وإيرانية من خلف الكواليس، ليس ظاهرةً جديدةً على الإطلاق، بل هي ممارسةٌ جرى اختبار فعاليّتها سابقاً، ويمكن تكرارها إذا دعت الحاجة. ويدعم التسلسل الزمني للأحداث، فرضية أن تكون تلك الأحداث جزءاً من مشروعٍ مُترابط؛ فعلى الرغم من أنّ المصادر الصحافية لم تؤكد موضوع اللقاءات السريّة التي جمعت بين إيرفاني ومالي إلّا في العاشر من يونيو الماضي، أي بعد أيامٍ من انتشار الأنباء عن استبعاد مالي، فإن مصادر مطلعة أكّدت أنّ محاولات إقالة الرجل المقرب من دوائر المعتدلين الإيرانيين، كانت قد بدأت قبل ذلك بأكثر من شهر، إذ وجّهت له الجهات الأمنية في 21 أبريل 2023، أسئلةً يمكن اعتبارها الخطوة الأولى لإقصائه عن منصبه، بدعوى إفصاحه عن معلومات سرية. وهي نفس الفترة التي بدأت فيها جهات متشددة في إيران بشنّ هجومها الإعلامي على شمخاني، بُغية التمهيد لإقالته من منصبه.



وقد أدّت الضغوط على مالي إلى غيابه عن اجتماع سرّي جمع مسؤولي الخارجية الأمريكية بأعضاء في مجلس الشيوخ في 16 مايو 2023، بدعوى الإجازة العائلية، بينما أدت ضغوط مشابهة إلى إقالة شمخاني من منصبه في 23 من الشهر ذاته. لينتهي بذلك مسار “التوافق المؤقت”، و”المفاوضات المباشرة” عبر تحييد الأطراف التي كانت تتابعه في كل من طهران وواشنطن. وقد خدم الاستبعادان مصالح كلٍّ من المتشدّدين ضمن اللعبة السياسية الداخلية الإيرانية، وجناح الصقور في إدارة بايدن والجمهوريين معاً.



استنتاجات

أدت إقالة شمخاني في طهران، ثمّ إقصاء مالي في واشنطن، إلى إجهاض فكرة “التوافق المؤقت” بين الولايات المتحدة وإيران قبل أنْ ترى النور. وكشفت التطوُّرات اللاحقة توجُّها مُغايراً لكلا البلدين، إذْ استأنف كلٌّ منهما تفعيل أدواته في التصعيد الذي سعيا طوال الأشهر الماضية إلى تجميده.



ففي إيران، جرى الإعلان عن اعتقال أمريكي رابع، بعد أن كانت المفاوضات تتركّز على تحرير ثلاثة أمريكيين تعتقلهم إيران في سجونها، وتمّت تجربة صاروخ كروز جديد، وأُجريت مناورات بالمُسيرات شارك فيها الجيش النظامي، و”الحرس الثوري” خلال يوليو 2023. وفي المقابل، جرى استئناف مسار احتجاز ناقلات النفط الإيرانية، عبر إيقاف واحدة منها في إندونيسيا، بعد أشهرٍ من الهدنة غير الرّسمية على هذا الصّعيد. وأعلنت واشنطن عن إرسال طائرات حربيّة، وقطع بحرية أمريكية جديدة إلى الخليج، للتصدي إلى الأخطار الإيرانية. وتراجعت أرقام إنتاج النفط الإيراني في ظلّ أنباءٍ عن عودة التشدُّد الأمريكي في تطبيق العقوبات. كما شهدت الصادرات النفطية الإيرانية تراجُعاً ملحوظاً في يونيو 2023، مُقارنةً بمعدل الإنتاج خلال الأشهر الأربعة الماضية.



كلُّ ما سبق يُشير إلى ضربة قاضية تلقّاها “التوافق المؤقت الهشّ”. واليوم نشهدُ استئناف مسار “التصعيد مقابل التصعيد” التي يتبنّاه الصقور في الإدارة الديمقراطيّة، وتراجُع فكرة “الأقلّ مقابل الأقلّ” التي روَّج لها حمائم الإدارة لمعالجة التمرُّد الإيراني عبر تقديم مبادرات حسن نيّة محدودة، مقابل توقف إيران عن ممارسة مزيد من التصعيد. أما في طهران، فـ “التصعيد مقابل التصعيد” أخذ يتطوّر إلى صيغة جديدة يُطلقُ عليها في طهران: “الصفعتان مقابل الصفعة الواحدة”.

أضف تعليق

Your email address will not be published.

آخر المقالات من عرب تريبيون